0
بقلم المعلم والشاعر : محمد ابو شرارة الشمراني













وداعاً نجران .. نجران التي جئتها للمرَّةِ الأولى ، فكنتُ كلما اقتربت منها ،  يلوح أمام مخيلتي ( ذو نواس ) ، وهو يساوم مؤمني نجران على إيمانهم ؛ فأعلم أن إيمان هذه المدينة لا يقبل المساومة !

ويلوح لي عبد يغوث الحارثي وهو في الأَسر يقول :

فَيَا راكِباً إِمَّا عَرَضْتَ فَبَلِّغَنْ
نَدامَايَ مِن نَجْرَانَ أَنْ لا تَلاَقِيَا

فأعلم أن وفاء أهل نجران لا يقبل المساومة !

ثم يلوح لي قس بن ساعدة ، فتعيدُ الأرض ترتيب فيزيائها ، وتصبح أكثرَ اتزاناً ، وأَرَفقَ دوراناً ، ويعيد الوقت تهيئة نفسه ، وأعلم أنَّ نجران بوابة الأرض إلى مدينة أفلاطون  .

كنت أقترب ، وكان بُرتَقالُ نجران ، أول سفير لنكهة نجران الساحرة ، وكانَ الإشارة الأولى بأنني سأدخل الجنةَ ذات الأفنان .

كنتُ أتفرَّس الوجوه ، وأتملَّى القَسَمات ، وأنا أُعَلِّم اللغة العربية ، فكنت ألمح في عيون الطلاب ، مخايل النجابة ، وملامح العبقريَّة ، وكنت أقرأ فروسية فُطِر عليها أبناء نجران ، وأصالة عربية ولدوا عليها ، ونشؤوا في كنفها .

النجرانيون لا يتحدثون كثيراً ، مقارنة بما يفعلون ، لأن أغلب من يتحدث ويتباهى ؛ إنما يتحدث عن مفقود ، ويتغنى بما ليس لديه .

النجرانيون لايتحدثون عن الكرم ؛ لأن الكرم يأكل معهم ويشرب ، ويسير على قدميه في بيوتاتهم العامرة ، وأحيائهم المرحِّبَة المفتوحة الأبواب ، والمُشْرَعة للضيف ، المحتفية بالغريب .
لا يتحدثون عن الشجاعة ، فهم يرضعونها مع لبن الأمهات ، حتى لا تلمح في عيونهم إلا نُبْل الفرسان ، وشكيمة العرب الأقحاح الخُلَّص .
إذا أردت أن تعرفَ العربَ على سجيِّتهم ، وكرمِهم ، ونخوتِهم ، وشجاعتِهم ، وفروسيتِهم ؛ فكل ما عليك أن تذهب إلى نجران .
فكما يمتدُّ وادي نجران العظيم ، تمتدُّ أيدي أهله بالكرم ، وصدورهم بالترحاب والأريَحيِّة ، وكما تقف جبالُه ونخيلُه شامخةً تعانق السماء ، يقف رجال نجران ، حاجزا منيعاً دون كل من تسوِّل له نفسُه ، بالنيل من أرض الوطن .

لم أكن حينما دخلتُ نجران أعلم أنني أدخل بوابة العالم ، وأنني أسير إلى عمق التاريخ الأبعد ، وأنني موعود بالدخول إلى مدينة المؤمنين التي من دخلها كان آمنا .

ها قد غَدَت نجران جزءاً من تكوين الروح ، وشرياناً يجري بالحب أبدَ العمر ، عَبَرتُ إليها ذات يوم ربيعي أخضر ، محملاً بعَبَق التاريخ ، وبزهر البرتقال ، فكانت بداية العشق !

اليوم أقول وداعاً نجران ، وداع جسد لا وداع روح ..
ومرحباً بنسيم البحر والذكريات والأصدقاء في جدة .
المعلم والشاعر/ محمد أبو شرارة

إرسال تعليق

جميع الردود تعبر عن رأي كاتبيها فقط ، وحرية النقد متاحة لجميع الأعضاء والقراء والقارئات الكرام بشرط ان لايكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من العبارات البذيئة وتذكر قول الله تعالى " مايلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد" صدق الله العظيم


 
الى الاعلى